top of page
  • Writer's pictureآمال نوار

الضوءُ المُضاء بذاته .. "لالَّا" قدّيسة شاعرة من كَشْمِير

Updated: Jan 21, 2020

آمال نوّار

الفيصل | 1 نوفمبر 2019 | ثقافات



" ارقصي لَالَّا وليس ما يكسوكِ غير الهواء،

غنِّي لَالَّا متدثرةً بالسِّماء.

انظري إلى هذا النهار السَّاطع!

أيّ الثِّياب يسعها أن تكون أبهى وأقدس؟"


"لَالِّشواري"


"لالَّا"، صوتٌ عذب وعارٍ حتّى النخاع، وزاخر بالحكمة والدلالات، يصلنا مخترقًا أصوات ستة قرون وأزيد، طازجًا ونضرًا ،كما لو أنه نبيذٌ تليد في قِطْفٍ حديث.

  

"لالَّا"، صوتٌ صافٍ، ونجيبًا يُجيب، عن أسئلة لا تنتهي صلاحيتها، لأنّ رَحَاها تدور في المُطْلق، وفي الجوهر اللازماني واللامكاني، وفي الطبيعة الأصلية للأشياء التي بتجددها تظلّ في المركز.


"لالَّا"، صوتٌ كان ينام فينا. لكأنّنا سمعناه في حلمٍ قديمٍ نسيناه. لكأنّه ضالُّتنا؛ معرفتنا الأصلية التي أَضَاعَتْها وِلادتُنا.لكأنّه لطافتنا التي لم نقوَ على إدامتها. لكأنّه أفعال حواسّنا على مدى سنين عمرنا وقد تكثّفتْ في قطرة نورٍ صغيرة برقتْ في قلوبنا؛ فكبرنا ألف عام في لحظة.


فيا لها من طاقة خلَّاقة برّاقة يختزنها شِعر هذه "العارفة" العظيمة؛ هذه "العارية" التي نزعتْ عنها جسمَها، ولم تُعَرِّه إلّا لتَتَعرَّى منه؛ هذه الراقصة رقصةَ الكمال ومَرامها حفظ توازنِ قُطْبَيْها فوق أرضٍ قَلّ مَنْ يشعر برقصتها.


 ***


قليلون هم الكشميريون، هندوسًا ومسلمين الذين لم تألف مسامعهم واحدة من حِكَمها أو مقولاتها الأثيرة التي تزخر بها قصائدها، والتي أضحت على مرِّ الزمن أمثالًا سائرة تتردد على كل شفة ولسان.


إنّها "لالاّ" (1320-1392م)، أشهر شاعرات لغة أهل كشمير المحكيّة القديمة. أشعارها الشفهية التي أنشدتها على قارعة الطرقات خلال القرن الرابع عشر - القرن الذي شهد رواج حركات دينية كثيرة في كشمير، وموجات تغيير على رأسها انتشار الإسلام - لم تفارقها الروح أبدًا، وواصل قلبها النبض في الذاكرة الجماعية لأهل تلك البلاد، صادحًا بلغاتٍ ثلاث: الكشميرية والهندوستانية والسنسكريتية. وعدا عن اسم "لالاّ" الذي يعني "محبوبة" بلغتها الأصلية أو "باحثة"، عُرفت هذه الشاعرة بألقاب أخرى عدة، منها: "لالاّ فاكيانا"، و"لَالِّشواري"، و"لالاّ يوغِيشواري" ("ربة اليوغا لالّا"، وهو لقبها في السنسكريتية)، و"لال دِدْ" ("الجدة لال" وهو أشهر ألقابها)، و"ماي لال دِدِّي" ("الأم لال") و"بيبي عارفة" (لقبها في اللغة الأردية، وهو مأخوذ من العربية ومعناه "الآنسة العارفة"أو "العالمة") وغيرها. وليس تعدد ألقابها سوى انعكاس لاختلاف نظرة الناس إليها؛ فهناك من رآها شاعرة حكيمة، وهناك من رآها قديسة، وثمة من أعدّها شيخة صوفية أو يوغانية نذرت نفسها للإله "شيفا" [1] أو حتى أنها هي نفسها الإله متجسّدًا.


منذ طفولتها، تمتعت "لالَّا" المولودة في بلدة "باندرتن" في الطرف الجنوبي الشرقي لمدينة "سريناغار" في كشمير المعاصرة، بطاقة روحانية عالية ومَيْل فطري نحو الحكمة والدِّين [2]، وكانت بالغة الجمال. تزوجت في سنّ الثانية عشرة، غير أن تجربة زواجها لم تدم طويلًا؛ إذ سرعان ما ضاقت روحها بنمطية العيش ورتابته ضمن هذا الارتباط التقليدي، فتحررتْ من أسره وهي في الرابعة والعشرين من عمرها، لتنقطع إلى تحصيل الدروس والتعاليم الروحية على يد شيخ مرشد هندوسي (غورو)(Guru Siddha Srikantha) كرّس نفسه لعبادة الإله "شيفا". إبان تلك المدة، حرصت "لالَّا" على صحبة الزهّاد والرهبانيين والمتنسكين والحكماء الهندوسيين، متجاوزة مفهوم الذكورة والأنوثة إلى معنى إنساني أشمل، وشرعت تجول في المناطق الريفية لتلك البلاد، منشدة قصائدها "الرباعيات" في الطرقات، وهي ترقص بأسمال ممزقة بالية أو عارية تمامًا.


يقول عنها المتصوف الهندي، غورو "أوشو": "كانت "لالّا" امرأة نادرة جدًا، ولكن ما لم يمكن تصوره، أنها (بالمفهوم التقليدي للمرأة) لم تكن امرأة على الإطلاق: عاشت عارية، وظلّت طوال حياتها تتنقّل عارية. المرأة عادة تختبئ، وتكون خجولة وخاضعة؛ "لالّا "كانت مكافحة ومشاكسة؛ كانت مجرّد عقل ذكري في جسم أنثوي، وكان لديها تلاميذ كثر. في التاريخ، هذا لم يحدث إلا نادرًا، نادرًا جدًا".


لالّا مستغرقة في تأمّل شيفا

أعرضت "لالّا" عن فلسفة فيدانتا [3] السائدة في زمانها، التي رأت أنّ "البراهمان" أو الطاقة الخلّاقة للكون، غير نشطة وأن الكون كله "مايا" أو "وهم". بالمقابل، انتمت "لالاّ" إلى مدرسة اليوغا الشيفية الكشميرية - وهو ما تظهره قصائدها النابضة بالحكمة والمقتضبة والمباشرة - التي تبنّت فكرة أنّ الكون القائم من المادة والطاقة (شاكتي) هو مظهر من مظاهر الوعي الكوني (شيفا)، الحقيقي والأبدي. واحتفت "لالّا" بالإله "شيفا"، المتجسّد بالقمر، والذي كان يمثّل لها الحقيقة الوحيدة المُطلقة، التي كانت تسعى إلى بلوغها من خلال تماهيها معه واتحادها به في مقام منتهى التجلّي ("حال الشهود" لدى الصوفيين) أو ما يسمونه بمرحلة الإشراق عند تنسّم الرحيق الإلهي (يعتقد أنّ "لالّا" بلغت "النيرفانا" [4] في عام 1389م)، حتى إن بعضهم قال: "إنّ رقص "لالاّ" ما هو إلاّ انعكاس للغة جسد "شيفا" نفسه"! والمعروف أنّ الروح في المعتقد الهندوسي هي جزء من الخالق (ضمن مفهوم وحدة الوجود)، وهي بعد تأهيلها بأداء طقوس التطهير الذاتي (فناء الذات) من أجل الانعتاق، وتخليص النفس من شرورها ونزاعاتها وشهواتها، تعود إلى مصدرها، لتتحدّ به.

تأثّرت "لالّا" بالإسلام الصوفي، علمًا أنّ الإسلام الذي انتشر في كشمير من خلال شيوخ صوفيين مثل الشيخ "بلبل شاه"، كان شديد التأثّر بـمذهب "مهايانا" البوذي وبفلسفة "الأوبانيشاد". شعرها كان وسيلتها لنشر فلسفتها في العشق العرفاني والعبادة الخالصة، وللانهماك الفعّال في كل من الشيفية والصوفية، إنما على طريقتها الخاصة بعد أن أصبحت مرشدة روحية ولديها أتباع. قصائدها انتقدت بحسٍّ ساخر أحيانًا، العبادة المترفِّعة والصنميَّة التي قوامها أنشطة روحية وحسب من دون تفعيل حواسّ الجسم، وإعمال جوارح الإنسان، للوصول إلى معرفة الخالق. ولعل أهم ما دعت إليه في أشعارها كان الابتعاد من المعرفة الجاهزة، ومدارس الفكر الديني التقليدية وبعض طقوسها الصارمة، والأخذ بالتعلّم التجريبي القائم على المعرفة الحسية للجسم، بأشكالها المادية العديدة والمتمايزة. والشائع أنها مبتكرة الشعر الصوفي المعروف بـِ "فاتسُن" (Vatsun) أو "فاكس" Vakhs)) أي "خطاب" (بالمعنى الحرفي)، ولذا، عُرفت أشعارها باسم "خطابات لال"، وهي من أقدم أشعار اللغة الكشميرية وأهمها في تاريخ البلاد الأدبي، ناهيك عن كونها ألهمت مشاهير الصوفيين لاحقًا. ورغم أن قصائدها تنتمي إلى التقاليد الهندوسية، إلا أن خزينها الروحاني سمح بترجمتها في القرون اللاحقة من المنظور الإسلامي لتكتسب بعدًا صوفيًا خالصًا. وإذا كان في تاريخ كشمير المعاصر، الحافل بالعنف، من كلمة واحدة "سحرية" توحّد بين المسلمين والهندوس؛ فهي بلا ريب: "لالّا". وهناك قول مأثور لدى الكشميريين: "نحن نعرف كلمتين فقط ذات مغزى: الأولى "الله" والثانية "لالّا""!

شيفا شاكتي؛ الروح والعقل

روايات وأقاويل كثيرة، معظمها من نسج المخيلة الشعبية، تناقلتها الألسن عبر العصور حول طبيعة حياة "لالاّ" الغرائبية، منها ما هو فكاهي، كحكاية الأمسيات التي كانت تقضيها في ضيافة حَمَاتها الشريرة التي كان من عادتها أن تضع لها حجراً تحت وجبتها من الأَرُزّ المطهو كي توهمها بأنها تحظى بحصة كبيرة من الطعام. ومنها ما هو أُعجوبي، كحكاية لقائها بوليّ المسلمين الشهير آنذاك "سيّد علي الحمداني"؛ الشيخ المتصوّف الذي يُعزى إليه الفضل في هدْي أهل كشمير إلى الإسلام. وتقول الحكاية: إنه بينما كانت "لالاّ" تتجول عارية في إحدى الدروب، وقع نظرها على الحمداني، وللتوّ فطنت إلى قداسته؛ فطفقت تعدو صوب أحد مخابز البلدة صائحةً: "لقد رأيت رجلاً"! وما إن ولجتْ باب المخبز، حتى قفزت في فرنه الملتهب لتلتهمها نيرانه الشرهة في ثوانٍ. وآن بلغ الوليّ المخبز باحثاً عنها، انبثقت "لالاّ" فجأة من الفرن، مكتسية بديباجٍ أخضرَ باهر من استبرق الجنة! اللافت أنّ الشيخ الحمداني نفسه اعترف بقداستها! وهناك حكاية أخرى عجائبية يتناقلها الناس عن أن "لالّا" عادت في أحد الأيام من النبع وعلى رأسها جرة ماء من الفخار، فقام زوجها الغاضب بسبب تأخّرها بضرب الجرة؛ فتحطمت، لكن الماء بأعجوبة، حافظ على شكله فوق رأسها! وهذا ما بات لاحقًا يُرمز إليه في الرسومات التي مثّلتها، بالشراب السماوي المتساقط من هالة حول رأسها.


موازنة بينها وبين الرومي


Coleman Barks

"كولمان باركس" أحد المترجمين الذين نقلوا بعض قصائد "لالاّ" إلى الإنكليزية، عمد في إحدى دراساته إلى إجراء مقارنة بينها وبين "جلال الدين الرومي"، مفترضًا أنهما على طرفَي نقيض؛ ففي حين أنّ أشعار "الرومي" مُسرفة، وفيّاضة، وجيّاشة المشاعر، وممتلئة حيوية؛ فإنّ أشعار "لالاّ" مُقتصدة، ومُتزنّة، ووقورة، ورابطة الجأش. كذلك فإنّ التعقيد والغموض اللذين يشوبان بعض أشعار "الرومي"، تقابلهما بساطة صارمة، ووضوح مفرط في أشعار "لالاّ". ولعلّ باركس لم يجانب الحقيقة فيما ذهب إليه؛ فالمتأمل في أشعارهما سيجد أنه إذا كانت أشعار "الرومي" أشبه بمخيلة وردة تتحرّك بكامل بتلاتها؛ فإنّ أشعار "لال اّ" أشبه بخلاصة عطر مُستقطَر من خاطر تلك الوردة. إنها أشعار تتنفّس في الجذور.


"لالَّا"، تشبهنا يوم كنا نشبه أنفسنا، وسوف تشبهنا "في حضرة قمر" يوم نكتشف "هذه المعرفة المستجدة بكيفية توحّد الأشباه". "لالَّا" أُمُّنا القديمة، وجدّة جدّتها. بساطة أشعارها من تُربة الشفاهية البصيرة التي تختزن في ذاكرتها لكلّ موقفٍ حكمته، ولكلِّ علّة عُشبتها الشافية، ولكلِّ عُصَابٍ (يستثيره فينا عالمٌ مُمْعن في مدينيته بلا رحمة) هرمٌ من البراءة، يزداد علوًّا كلما امتاح من الماضي، نصعد فيه نحو شفافية ما، تُنجِّينا من العيش في المصطنع، متخفّفين من أحمالنا مع كل خطوة إلى الأعلى، حتى لنكاد نقبض على فِطْرتنا في أنفاس "لالَّا"؛ جدتنا. هذا ما تبعثه فينا قراءتها؛ فأشعارها عابرة اللغات والقارات والأزمنة. إنها خلاصة كشف بصيرة وباصرة قديسة وشاعرة عظيمة تاقت إلى الوجود المطلق.


تَفكّرْ في اللغز الذي تجسّده


Lal - Ded (لال دِدْ أي الجدة لآل)

الروح كالقمر جديدة ومتجددة دومًا.

كذلك رأيتُ المحيط خلاّقًا باستمرار.

وبما إني طهّرتُ الذِّهن منِّي والجسم؛

فأنا لالَّا، أيضًا جديدة،

ومتجددة أبدًا.

معلّمي لقّنني شيئًا واحدًا:

احْيي في الروح!

حين تمَّ لي ذلك

جعلتُ عاريةً [5] أطوفُ

وأرقصُ.


***


تدثَّرْ بالكفاف فقط من الملبس، ما يبقيكَ دافئًا.

اقتَتْ بالكفاف فقط من الطعام، ما يقيكَ وخزة الجوع.

وفيما يخصّ ذهنكَ؛

دعْه يجتهد ليدركَ هويتكَ،

وماهيةَ المُطلق، وأنّ هذا الجسم

سيغدو طعامًا لغربان الغاب.


***


أولئكَ ذوو موهبة المشي في الهواء،

أولئكَ القادرون على إخمادِ نارٍ،

أو تجميدِ مجرى،

أو الحظو بحليبٍ من بقرة خشبية،

هم مشعوذو شوارع، ليسوا أكثر!


***


الزهّاد يتنقلون من مزارٍ إلى مزار

سعياً وراء الذي يتأتى

من ارتياد الروح وحسب.


تفكّرْ في اللغز الذي تجسّده!

حين تُمعن النظر انطلاقًا من ذلك،

يبدو العشبُ المشذّب

على مقربة من هنا، أنضر

وحتى أكثر اخضرارًا في الأبعد.

اثبتْ هنا.


***


تأمّلْ من منطلق الأبدية.

لا تلزم حدود عقلكَ.

أفكاركَ مثل طفل يتململُ

قرب ثدي أُمِّه، مضطربًا وخائفًا،

وهو بقليلٍ من التوجيه

يُمكنه الاهتداء إلى درب الشجاعة.


***


ثمة مَنْ ينامون وهم مستيقظون،

وآخرون مستيقظون وهم في سُباتٍ عميق.

ومِمَّن يستحمّون في بِرَكٍ مقدّسة

ثمة مَنْ لن يطَّهروا أبدًا.

وهناك آخرون

تصرفهم الواجبات المنزلية

عن القيام بأيّ نشاط.


***


دعْهم يكيلون لعناتهم!

إنْ كنتُ في الباطن، على صلةٍ

بما هو حقيقي،

ستظلّ روحي ساكنة وصافية.



أوَ تظن أنّ شيفا يُقلقه ما يقوله الناس؟!

إذا تناثر قليلٌ من الرماد على مرآة؛

استخدمْه لصقلها!


***


شيفا نَتَاراجا "ملك الرقص"، داخل هالة ملتهبة ترمز إلى الزمن الدائري والأبدي، يرقص رقصته الكونية التي من خلالها يدمّر الكون ويعيد خلقه، رافسًا قزم الوهم والجهل

الشهرة ماء محمول في سلّة.

احبسْ الريح في قبضتك،

أو اوثقْ فيلًا بشعرةٍ واحدة.

هاتان مأثرتان تجعلانكَ شهيرًا.


***


الرجال والنساء الآن، حتى الأفضل بينهم،

بالكاد يتذكرون حياتهم السابقة،

أمّا بخصوص الأطفال، الذين تزداد حياتهم

صعوبة؛ فما حيلتهم؟!


هناك زمنٌ قادم مشوّه بشدّة وشاذّ،

لدرجة أنّ الكمثرى والتفاح

سينضجان مع المشمش،

والِابنة والأُم سيغادران المنزل يوميًا

يداً بيدٍ للعثور على غرباء جُدُد

للاضطّجاع معهم.


***


حُطَّ عني حِمْلَ العُذوبة التي أنوء بها؛

عُقدةُ الحَبْل تنغرز في كتفي.

هذا النهار تمادى في لا معناه،

أشعرُ أني لا أستطيع المضيّ.


حين كنتُ ومُعلِّمي، سمعتُ حقيقةً

آلمتْ فؤادي كقَرْح:

الألم العصيب لرؤيةِ شيءٍ عشقتُه،

كوَهْم.


القطعان التي رعيتُها، رحلتْ.

أنا راعية، حتى من دون ذكرى

لما يعنيه تسلّق هذا الجبل.

أشعر أني في منتهى الضياع.


تلك كانت حالُ روحي،

إلى أن وجدتُني في حضرةِ قمر!

- هذه المعرفة المُستجدة

بكيفية توحّد الأشباه.

فيا صديقي الطيّب،

كلُّ شيء هو أنتَ،

وأنا أرى الإله فقط.


الآن، تبدو الأشكال والحركات المُبهجة

شفافة،

أنظرُ من خلالها

فأراني الوجود المُطلق.

وها الإجابة على لُغز هذا الحُلم:

أنتَ تغيب، ليتسنى لنا نحن الاثنان

القيام برقصةٍ واحدة!


***


يصلون، والبعض الآخر يصل،

ثم يذهبون، ويذهب الآخرون.

ليلًا ونهارًا، حركة أقدام متواصلة.

من أين يأتون؟ وإلى أين يذهبون؟

وهل هذا يعني شيئًا؟

إنّه لا شيء، لا شيء، لا شيء.


***


ما الإدراك الذي يتحصّل من خلال القراءة؟!

لقد قررتُ عدم ترك الكتب تحدّد حياتي،

إنما فقط كلّ ما يساعد على

تبديد الوله والتوق العاطفي.

إنّ دهاء العقل الفطري الحادّ،

لَهُوَ ثعلبٌ يعرفُ ما يعوزني.


***


جئتُ إلى هذا الكون المخلوق والمُنبعث أبدًا،

ووجدتُ الضوءَ المُضاء بذاته.

إذا ما ماتَ أحدهم، فهذا لا يعني لي شيئًا،

وإذا ما متُّ، فهذا لا يعني شيئًا لأحد.

جيّدٌ أن نموت،

وجيّد أن نُعمِّر.


الموت والولادة حدثان مستمران

داخل الوعي الواحد،

ولكن أغلب الناس يسيئون فهم

اللعبة الخالصة للطاقة الخلاّقة،

وكيف ضمن ذلك،

هذان هما حَدَثٌ واحد.


***


لالَّا، جُبْتِ أماكن كثيرة

سعيًا لإيجاد زوجك!

الآن وبعد لأيٍ، داخل جدران

هذا الجسم المأوى، وفي القلب المزار،

ها أنتِ تكتشفين أين يحيا.


***


غابت الشمس: التشاكرا [6] الأدنى للنشاط،

ثم القمر: التشاكرا الأعلى.

مُستغرِقًا في المُطلق، ذهني تلاشى.

أين ذهبتِ الأرض والسماءالآن؟

هل توارتا في العدم

مثل صديقتين في نزهة؟


***


ستختفي الشمس في ضوء القمر،

وسيتلاشى القمر في القلب،

وسيترمّد الذّهن المتوقِّد،

ولن يكون هناك شعور بالانفصال بعد،

بعدئذ، ستولد معرفة عظيمة

ومحبة تتسع لذلك كله.


***


بعض الناس زهدوا في منازلهم،

آخرون في صوامعهم.

هذا الزهد كلّه، بلا طائل

إنْ لم تكن واعيًا في الباطن.


نهارًا وليلًا،

كُنْ حذرًا مع كلّ نَفَس،

واحْيَ هناك.


معلِّمي، أنتَ الإله بنظري!

اكشفْ لي المعنى الدفين لأنفاسي ذات الطبيعتين:

الأولى الدافئة، والأخرى الباردة.


" في حوضكَ، قرب السّرّة [7]،

يكمنُ مصدرُ الأنشطة الكثيفة

المسماة الشمس؛ مدينة الضياء.

وبينما تتصاعد حيويتكَ من تلك الشمس،

فإنها تسخن، وفي فمك تلتقي بالسيل البارد،

المُنحدِر عبر يافوخ ذاتك العليا،

والمسمى القمر أو شيفا.

هذا الخليط النهريّ، نحسّه بالتناوب

مرة دافئًا وأخرى باردًا."


***


ما هي العبادة؟

مَنْ هذا الرجل وهذه المرأة الآتيان بالزهور؟

أيّ صنوف الزهور ينبغي إحضارها،

وماء أيّ الجداول يُسكَبُ على التماثيل؟


العبادة الحقّة تتمّ بواسطة العقل

(فليكن هذا بالنسبة إلى رجل ما)،

وبدافع الرغبة

(فليكن هذا بالنسبة إلى امرأة ما)،

وليُترك لهذين الاثنين الخيار

فيما سيقرِّبانه.


ثمة سائل يمكن إفرازه

من تحت قناع الوجه؛

شراب إلهي حينما يتصبّب،

يمنحُ النفس انظباطًا وقوّة.

ليكنْ هذا هو سيلكَ المُقدّس.

ليكنْ نشيدُ عبادتكَ صامتًا.


***


أنتَ وحدك السماء وأنتَ وحدك الأرض،

أنتَ النهار والليل والريح المتناوحة،

أنتَ قربان الأَرُزّ ومعجون الصندل [8] والزهور

والماء المقدّس،

أنتَ نفسُك الكلّ في الكلّ،

فما عساني أُقرّب إليك؟!


***


الشراهة تمنحكم الطاولة الأفضل في مدينة اللامكان،

الصيام يمدّ غروركم الذاتي بدفعة إلى الأمام.

يا عبيد التطرف، تعلموا فنّ الاعتدال

وستنفتح لكم جميع الأبواب المغلقة بلمسة.


***


الإله لا يريد منكم التأمل ولا التقشّف،

بالعشق وحده يمكن بلوغ جنة النعيم.

قد تذوب الذّات في الواحد المطلق كالملح في الماء

ولكن هيهات لها أن تدرك سرّ الخالق.


***


الآن يا سيدي، تأكّد من أنكَ حصّنتَ مؤخرتكَ،

وإلّا فسوف يشقُّ طريقه

عبر حدائق الزعفران المجاورة.

لا أحد سينوب عنك

عندما تكون رقبتكَ على المِحَكّ.


***


أجّرُ قاربي عبر المحيط بحبل مهترئ،

هل سيسمعني ويقودني إلى برّ الأمان،

أم هل سيرشح مني الماء وينفد

ككوز فخار لم يُشْوَ جيدًا؟

هيمي يا نفسي المسكينة؛

فلن تعودي إلى ديارك في أي وقت قريب.


***


كنتُ مشبوبة العاطفة،

مُفعمة صبابة،

أبحثُ في كلِّ مكان.

ولكن في اليوم الذي

وجدني فيه الكائنُ الحقّ،

كنتُ في بيتي.


***


بدعابةٍ اختبأتَ مني؛

فقضيتُ طوال اليوم أبحثُ عنكَ،

وحين اكتشفتُ أخيرًا أنني كنتُ أنتَ

أخذتنا نشوة الابتهاج بذلك.


*** *** ***


الهوامش:


(1) شيفا: الإله المُدمِّر أو المُهلِك من أجل إعادة الخلق، وهو أحد آلهة الثالوث الهندوسي، إلى جانب براهما الإله الخالق وفيشنو الإله الحافظ. ويُعبَدُ "شيفا" بصفته "المدمِّر البنّاء"، الذي يقضي على الأوهام والشوائب في العالم ممهدًا الطريق من أجل انبعاث خلّاق، ولذا فهو يجمع الخير والشرّ، والروح والعقل، إلى جانب متناقضات أخرى مثل الذكورة والأنوثة حيث يظهر في الرسوم والتماثيل بجسد أندروجيني، ؛ فهو الذات العليا المطلقة، والكلّ الموجود في الكلّ.


(2) تجدر الإشارة إلى أنّ مفهوم "الدين" المتداول لدى أصحاب الديانات السماوية، لا يشبه تمامًا ما لدى الهندوس؛ فمرادف كلمة "دين" في اللغة السنسكريتية: كلمة "دارما"(Dharma) وتعني "القانون" أو "السلوك"، ولها معانٍ أخرى في "السيخية" و"الجاينية" وغيرها من المعتقدات الهندية.


(3) فيدانتا: كلمة تستخدم لوصف مجموعة التقاليد الفلسفية المتعلقة بمفهوم تحقيق الذات، والتي يفهم المرء من خلالها الطبيعة المطلقة للحقيقة (البراهمان).


(4) نيرفانا: في الديانة الهندوسية والبوذية، تعني حالة الإشراق أو الانخطاف أو الانطفاء التي يصلها الشخص بعد ممارسة التأمل العميق، حيث ينفصل عن العالم الخارجي، حتى تنطفئ شعلة شهواته وآلامه، ويصل إلى حالة السعادة القصوى، والحكمة الأعلى، والسلام الأعمق، والحرية المطلقة، متحررًا من شعوره بالحزن والملذات الحسية وكل ما تثيره في النفس الأشياء الزائلة. وفي اللغة السنسكريتية القديمة، تحمل المقاطع اللفظية الثلاث (نير+ فار+نا) ) (nir+var+na) معنى "أن تتفلّت من الجذور المتشابكة" أو "أن تنجو من نسيج الشبكة ".

(5) يقوم "العري" في الديانة الهندوسية على أسس ثلاثة، أولًا: أساس فلسفي مفاده أنّ لحياة الإنسان أربعة أبعاد: (Purushartha)

المتعة والثروة والفضيلة والتحرر، وهو مدفوعًا بها، يلجأ إلى "العري" وكل ما يرتبط به، كوسيلة إما لتحقيق غاية روحية أو لتحصيل المتعة. ثانيًا: أساس روحاني، يرى في "العري" رمزًا لـِ "التخلّي" (tyaga) في أعلى مراتبه، والعودة إلى الجوهر والنموذج السماوي الأصلي؛ إذ يرمز الشخص أو الإله العاري إلى الكيان الخالي من "المايا" أو من التعلّق بالماديات الزائلة، والمتخلّي عن كل ما هو دنيوي حتى عن الملبس، والمسكون بالكمال الذاتي والوجود المطلق. ثالثًا: أساس مادي، يرتبط فيه "العري" بـ "الفن" في خوض التجربة الحسية حتى آخر مداها، في الوقت الذي يرتقي إلى مرتبة "القداسة"! فالتطرف الروحاني للهندوسية لم يكن ليمنعها من سبر غور إرث أحقاب طويلة من حياة الحواس ومتعها؛ ولذا ثمة في هذه الديانة سعي إلى تحقيق أقصى قدر من التفاصيل الحسية المتأتية من صنوف التجارب الجسمانية. ومع ذلك، يُلاحظ أن هذا السعي إلى أقصى النقيضين من التطرف (الروحي والمادي) لم يؤدِ أبدًا إلى أي اضطراب. ذلك أن الجدلية القائمة بين الجسم والروح في الهندوسية، جعلت من عُرْي الجسم مرآة لنقاء الروح، بقدر ما يتعرى تتعرى، حتى ليتوحد الظاهر بالباطن والأرضي بالسماوي. ولهذا "عارية" كانت ترقص "لالّا" بعد أن وجدت "شيفا" الملقّب بـ "ملك الرقص" في قلبها. ومؤكدًا، للحواس خبراتها في التمييز بين "العري الدنيوي" و"العري المقدّس". ولأنّ "العري" في الهندوسية فيه ما فيه؛ فهو مقدّس وليس مباحًا لمن يشاء، وإنما للقديسين فقط وبعض الرهبان الذين يكتفون بارتداء مئزر. ولئن تسنى لـِ"لالّا" أن ترقص عارية؛ فهذا إقرار بمقامها الشريف وقداستها.


(6) "التشاكرا"، كلمة سنسكريتية، وهي في المعتقد الهندوسي ورياضة اليوغا الروحية، اسم واحدة من عُقَد (أو عجرات) سبع، تشكّل مراكز الطاقة الأساسية في جسم الإنسان، وتصطف تصاعديًا من أسفل العمود الفقري حتى قمة الرأس، حيث هناك، في التشاكرا الأعلى، يتمّ الاتّحاد بالإله.


(7) تقول إحدى أساطير الهندوس: إنّ الإله "براهما" خرج من زهرة لوتس من سرة الإله "فيشنو"؛ ولذا نجد أنهم يقدّسون منطقة السرّة، وخصوصًا في جسم المرأة، ويعدّونها رمزًا للخصوبة والانبعاث (الاستنساخ) واستمرار الحياة، وتظهرها نساؤهم في لباسهن التقليدي المعروف بالساري، ولكن في الوقت عينه، ليس لرجل شريف يحترم المرأة ويراعي آداب السلوك العامة، أن ينظر إلى سرّتها قبل النظر إلى وجهها.


(8) معجون خشب الصندل: هو ما يستخدم لدى الهندوس لطبع النقطة الحمراء بين الحاجبين، المسماة "بندي" أو "بندو" (Bindi or Bindu) وتعني "القطرة"، وذلك لمنع تسرّب الطاقة من تلك النقطة التي يظنون أنها مكان خروجها، وبوجودها يتسنى للمتأمل حسن التركيز وحصر التفكير وطرد الشياطين. ويُذكر أن هذه العلامة التي تصوّر أحيانًا كعينٍ ثالثة، لا تعني أن المرأة متزوجة، كما هو شائع، علمًا بأن الزوج قد يضعها على جبين عروسه لمنحها الشرف؛ فهي رمز يحيل إلى نظرته إليها كعقل متفكّر وليس كجسم مستسلم للغرائز وحسب.

120 views0 comments

Recent Posts

See All
bottom of page