top of page
  • Writer's pictureآمال نوار

خطاب روائي في غياب المخاطَب ... «رحمة» لتوني موريسون... بانوراما عن العبودية في تجلّياتها الأعنف

Updated: Aug 9, 2019

آمال نوّار

الحياة - 06/03/09//


Toni Morrison

بعد «فردوس» (1998) و«حبّ» (2003)، تطلّ علينا توني موريسون حاملة جائزة نوبل للآداب في 1993، بروايتها الجديدة «رحمة» (2008). وإذا كانت روايتاها السابقتان لم ترقيا في مختبر النقد إلى مستوى "المحبوبة" 1987، الرواية الذروة التي ألقت بوزرها على الكاتبة في منتصف تجربتها، فما عاد القارىء ليطمع بأقلّ، والتي اختيرت باقتراع أجرته النيويورك تايمز في 2006، الرواية الأميركية الأعظم في السنوات الخمس والعشرين الماضية، فإن روايتها الأخيرة فيها من الألق، والحرفة، والتقنية، وجماليات السرد، وعمق الموضوع، وفرادة الطرح، واللغة الشاعرية الآسرة، وقوة التأثير، والمخزون التاريخي، وجهد التقصّي، ما يوسّع لها مطرحاً في القلوب والأذهان قريباً من رائعتها "المحبوبة" إن لم يكن محاذياً لها. ناهيك عن أن الروايتين يجمعهما عالم متجذّر في أميركا الماضي، وموضوع الأم الرقيق التي تضحّي بأولادها، سواء بقتلهم أو بالتخلّي عنهم، من أجل إنقاذهم. وهذا ما حدا بالبعض إلى اعتبار "رحمة" بمثابة جزء أول" للمحبوبة". لا تحيل كلمة "رحمة" في العنوان إلى رحمة الخالق أو مجتمع من الناس بفعل أعمالهم أو قيمهم، وإنما هي في أصلها الإنجليزي مسبوقة بأداة التنكير التي تعني واحداً “A Mercy” ما يحدّها إلى بادرة رحمة واحدة وحيدة تتأتّى من شخص واحد لا أكثر في عالم يكاد يخلو من الرحمة.


توضّح موريسون أنها كتبت روايتها هذه ابتغاء فصل قضية العبودية عن العِرق. وهي لذلك أعادتنا ثلاثة قرون الى الوراء، تماشياً مع الواقع التاريخي الذي أجلى لها أن العبودية في الأصل لم تكن عبودية عنصرية فحسب، مقتصرة على السود، بل كانت تشمل أجناساً مختلفة من بيض أوروبيين، وخلاسيين وهنود حمر. وبحسب الكليشيهات، فإن بعض الأوروبيين كان يقايض حريته مقابل الرحيل الى أرض الأحلام (أميركا البكر)، الى جنة عدن أو ربما نادي الرماية الضخم! ولكن خلف قناع التاريخ، ثمة سفن كانت تُحمِّل مُعدمي أوروبا من مومسات وأيتام ومشرّدين بعد أن تخيّرهم بين السجن أو الخدمة التعاقدية (تسمية مهذبة للعبودية). وتلفت الكاتبة، ما من حضارة في العالم إلاَّ وقامت على العبودية، والحال العرق هو عنصر دخيل. ولأنها رواية عن العبودية بمعناها الأشمل، ولأن العبودية تتمثل في تجلياتها الأعنف، في صورة المرأة (الأم خصوصاً)، والطفل (اليتيم خصوصاً) الكائنين الأضعف في المجتمع. تنسج موريسون حبكة، أبطالها أربع نساء، بينهن الفقيرة واليتيمة والشريدة والمُتاجر بها، جميعهن مستعبدَات بصور مختلفة، وتتباين أصولهن ومعاناتهن ليجتمعن تحت مظلة هيّأت لها الكاتبة مهاراتها كلها. كرونولوجيا الحوادث المختلطة ستتضح مع التقدم بالقراءة وتولي أذهاننا إعادة ترتيبها.


بنيان الرواية الملغز في تركيبه وتراتبية أحداثه والمجدول بلغة شاعرية مجازية إنما هو انعكاس لمحتوى موغل في ضبابيته من حيث بعده الزمني (القرن السابع عشر)، ولكون تقاليد العبودية آنذاك كانت لا تزال طازجة في تلك المستعمرات. إيجاز خطة الرواية في سطور، فيه انتهاك لرغبة كاتبة تقصدّت الغموض، في محاولة لتشويقنا وإثارة دهشتنا. الفصل الإفتتاحي مثلاً قوي ولكنه يتجلّى في الفراغ، إذ يضمّ إحالات وإسنادات إلى شخصيات وأحداث لا تزال خارج إدراك القارىء، مما يثير حيرته ويشوّشه، ولكنّ صبره سيُكافَأ في النهاية. على غرار جويس وفولكنر، لا تتخلّى موريسون عن المعنى أو مفاتيح أسرارها بسهولة، لأن في ذلك انتقاصاً من رصيد الرواية الفني وقوتها التأثيرية. فالمطلوب، إقلاق القارىء ليواصل تقدّمه بخطى غير ثابتة.



يجري السرد في 1690، ولكنه يعيدنا سنين إلى الوراء راسماً بورتريهات للشخصيات، وموضحاً ظروف انضمامها إلى المكان ذاته: مزرعة في شمال فيرجينيا. جايكوب فارك، مستوطن هولندي، نشأ في ميتم، ثم أصبح تاجراً وصاحب مزرعة، وكان ورث أرضاً في أعالي ولاية نيويورك من عمّ لم يلتقه قط. نظر الى العبودية في وصفها «المهنة الأحقر»، وأصر على أن «اللحم الآدمي ليس بضاعته». ولكنه من ناحية ثانية أوجد لنفسه معادلة تخوّله الربح الوفير وترضيه أخلاقياً، وذلك كتاجر سلع يُستخدم العبيد في انتاجها (السكر، شراب الروم) وكممول لتجار الرقيق وملاَّكهم! وكعادتها، تفضح موريسون ذلك التناقض السيكولوجي الدقيق في شخصياتها من خلال وصف فذّ لطريقة يعتمدها البعض لتحصيل الثروات محافظين على شعورهم بالطهارة واحترام الذات ما داموا لا يتعاملون مع السلاسل والسياط مباشرة. ولكن لا تخلو شخصية هذا الأوروبي من ملامح خيّرة تميّزه عن أسياد زمانه الإقطاعيين. فهو لا يمارس العنف مع رقيقه. ولا يتأخر في انقاذ حياة حيوان صغير في البرية، وتنفره التقاليد المتزمتة وقناع التقوى والذوق الرفيع الذي يخفي القسوة والتكّلف والشّر والجهل. غير أنّ «إنسانية» هذا المزارع البسيط في مظهره وحياته، لم تصدّه عن أن يغبط تجاراً يحتقرهم على حياتهم المُترفة وبيوتهم الفخمة. فيباشر بتشييد منزل ضخم. ويستدعي حداداً من السود المُحررين ليقيم له بوابة حديد باذخة الزخارف يعلوها على الجانبين رأس أفعى نحاس.


أتكون هذه بوابة الجنة للمستعمرين، وبوابة اللعنة للسكان الأصليين؟ ذلك ما تظنه لينا (14 سنة)؛ الفتاة الأولى التي يشتريها فارك لتعمل في مزرعته. وهي من الهنود الحمر نجت بأعجوبة من وباء مميت فتك بأهل قريتها، لتنتقل للعيش في كنف المستوطنين الذين ربوها على تعاليم المسيحية بوجهها البروتستانتي المشيخي دون أن يسمحوا لها بدخول كنيستهم. وهي الشخصية الأكثر اكتفاء وقدرة على ضبط النفس. تحصّن نفسها بنتف متفرقة من كل ديانة صادفتها، ومعتمدةً على ذاكرتها، تمارس بعض الشعائر المنسية. تجمع بين وصفات طبية أوروبية مستحدثة وأخرى محلية قديمة. تستعين حيناً بالكتاب المقدس وحيناً آخر بوعيها الفطري الخاص، لتهتدي في النهاية الى وصفة فريدة تخوّلها اكتشاف المعنى الخفي للأشياء.


تنضمّ إليها ريبيكا (16 سنة)، من بيض أوروبا، وهي الزوجة التي يتكفل فارك دفع مستحقاتها الى أبيها ونفقات قدومها من لندن، دون اعتراض منها هي الهاربة من حياة الفقر والإجرام والفسق مفضلةً الرحيل الى المجهول والاقتران برجل لم تلتقه قبلاً. تنجب أطفالاً عدة، ولكنها لا تلبث أن تفقدهم بالأمراض وأسباب متفرقة. تلحق بهما «سورو» (11 سنة) فتاة خلاسية عاشت مع أبيها القبطان على ظهر سفينة تعرضت لاحقاً لعملية قرصنة، فنجت هي وحدها ولكن أصيبت بالبله، ثم في ظروف غامضة انتهت الى أحد الشواطئ شبه غريقة. العائلة التي وجدتها وسمّتها "سورو" أي «أسى» أرادت التخلّص منها، فعرضتها على فارك الذي أخذها ولم يعلم أنها حُبلى. ثم تأتي فلورنس (8 سنوات) رقيق من البرتغاليين السود، يقبلها فارك كدفعة جزئية من دّين، عجز صاحبه، السنيور دي أورتيغا، عن تسديده بالمال. ودي أورتيغا، برتغالي، صاحب مزرعة تبغ في ميريلاند، وتاجر رقيق كان خسر سفينة محمّلة بعبيد باربادوس. الأم التي يقع عليها خيار فارك تضحّي بطفلتها فلورنس لترحل معه بدلاً منها لأنها لمحت فيه من مواصفات الرحمة ما قد ينقذ ابنتها من شقاء العيش في خدمة السنيور البغيض.


فلورنس هي شخصية الرواية المركزية والوحيدة التي تشارك الراوية (الكاتبة) السرد بالتناوب على الفصول. تقع في عمر السادسة عشرة في غرام الحداد، الشاب الواثق من نفسه والمتفجر شهوة ورجولة. وهو الذي سيشرح لها ما هي حقيقة معنى أن يكون المرء عبداً. وليس صدفةً أن تزج موريسون بشخصية أفريقي محرر، بين الرقيق. أرادته صوت الحقيقة، يأتي ليذكّر المستعبدين بإنسانيتهم. فثمة تأمّل في قدرة الشخص على امتلاك نفسه والطرق التي يتحول فيها الاستسلام للخارج الى استسلام للداخل بحيث يصبح العبد عبداً لنفسه وشهواته ولا يملك سلطاناً عليها. ولهذا لا نستغرب ما خاطب به الحداد فلورنس في لقائهما الأخير وهو يطردها من بيته: «أنتِ عبدة، برأس فارغ وجسد شرس. امتلكي نفسك يا امرأة، واتركينا نعيش. أنتِ لستِ إلا وحشة بلا رادع. بلا مخ».


لسخرية القدر، يقضي فارك بمرض الجدري مباشرة بعد انتهائه من بناء بيته الضخم الذي استلزم إبادة خمسين شجرة. ولا يلبث المرض أن يهدد حياة الزوجة أيضاً التي تلزم الفراش وترسل فلورنس في رحلة محفوفة بالمخاطر لتأتي بالحدّاد، الذي سبق وعالج «سورو» من المرض ذاته. المزرعة، فجأة يتهددها الانهيار نتيجة تعرّضها للإهمال، ما يعني أن ثمة ما هو أخطر قد يتهدد ساكنيها. وهنا تحسن موريسون القبض على واقع حال نساء عاجزات، لم يستطع السقف الواحد توحيد مصائرهن، يصارعن من أجل البقاء بعد غياب سيّدهن، في وقت أنهن أيضاً إذا ما خسرن سيدة المنزل البيضاء، فسيعدمن كل فرصة للنجاة. تحثّ فلورنس الخطى في مهمة عسيرة ومخيفة تعبر خلالها البراري المأهولة بالحيوانات الكاسرة والأفاعي، مثيرةً مونولوجاً متقداً ومتعذراً كبحه. صوتها في آن، هو الأكثر احتياجاً الى ذهن القارئ، والأكثر اشباعاً له. فهو مضمّخ بالشعر الخام والشغف. تقول: «لم أرَ أبداً من قبل أوراقاً تشفّ على هذا القدر من الدم والنحاس. لون فاقع الى حدّ أنه يؤلم العين، ولإراحتها، عليّ التحديق عالياً في السماء الى ما فوق خط الشجر».


نعيد قراءة الفصل الأول عند انتهائنا من الأخير، بعد أن نفهم أن البطلة (فلورنس) كانت منذ البداية تروي حكايتها لحبيبها الغائب، ما يفسّر غياب صوت المخاطب. فهي في آخر الرواية تدخل خفية إحدى غرف المنزل السفلية وتشرع بحفر كلماتها له على الجدران. كلمات كثيرة لا تسعها منازل، وربما تحتاج إلى الهواء يحملها ثم يفرشها كالرماد فوق البراري والوديان. لا تملك فلورنس في النهاية إلا أن تملك نفسها كي تستطيع البقاء. تقول: «لا شفقة يا حبيبي. ليس البتة. أتسمعني؟ رقيق أم محررة، سأبقى».


قوة الرواية الرئيسية تكمن في رسمها العلاقات الغامضة والمعقدة بين شخصياتها، بحيث يصعب الحكم على أحد منها، لينا التي تستنفر شعور الأمومة لديها لتعوّض فلورنس إحساسها باليُتم؛ هي نفسها التي تكتم أنفاس مولود «سورو» الأول (نذير الشؤم في عينها) وتسلّم أمره للنهر. فلورنس التي تأخذها مشاعر حبّها للحداد إلى حدّ المخاطرة بحياتها؛ هي نفسها التي تدفعها الغيرة إلى كسر كتف طفل بريء ويتيم يعيش موقتاً في رعايته. فارك الخيّر الليّن المعشر الذي يمنح الطمأنينة والسقف لنساء ما كنّ لينعمن بالأمن خارج هذا المكان المحاط ببرية مرعبة ومستعمرات لمتدينين متزمتين؛ هو نفسه الذي يراكم الثروة عبر ضخّ الأموال في شرايين تجارة قذرة، مقنّعة، سلعتها الحقيقية اللحوم البشرية. ريبيكا المرأة الطيبة التي كانت تعمل مع لينا في المزرعة جنباً الى جنب، وتحنّ على فلورنس الطفلة، وتمقت أجواء الجماعات الدينية المتشددة؛ هي نفسها التي تعود بعد موت أطفالها وزوجها، وشفائها من مرضها، لتنضمّ إلى فرقة دينية متزمتة، فتقسو طباعها ويخشن سلوكها ولا تعود تسمح لأحد بالمبيت معها في النزل، بل خارجاً في الصقيع أو في زريبة الأبقار. ثم لا تلبث أن تعرض فلورنس و«سورو» للبيع!


يأتي صوت أم فلورنس في الفصل الأخير مُفاجئاً. كلماتها التي تشبع القارئ بمعنى الرحمة، يبقى صداها هجراناً وقسوة، للابنة التي لن يتسنى لها أبداً سماع الجانب الآخر من القصة. موريسون التي سبق أن كتبت بقوة عن الفواجع والوحشية والرعب، تضيف إلى لائحتها هنا الرغبة والدهشة. قدرة الكاتبة على التكثيف تتجلّى في هذه الرواية التي تجمع بين التاريخ والشعر والسيكولوجيا في بناء متماسك لا يتعدى 167 صفحة.

124 views0 comments
bottom of page